
لقد وَضَعَ اللهُ سُبحانَهُ وَتَعالى، تشريعًا لخلقهِ مبنيًّا على حريّة الاعتقادِ والعدالةِ، بأعظم صفاتِها، حيثُ يقول سُبحانَهُ:
﴿وَقُلِ الْحَقُّ من رَّبِّكُمْۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).. (الَكهف: 29)
كما يُخاطبُ نبيَّهُ:
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ من فِي الْأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾.. (يونس: 99)
ويؤكدُ لَه:
﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾.. (الغاَشية: 22)
ويوضحُ صلاحياتِ الرسولِ صَلّى اللهُ عليه وسلّم:
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حفِيظًا وَمَا أنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾.. (الأنعام: 107)
إذًا مَنْ أعطى أيَّ مخلوقٍ الحقَّ في أن يُنصِّبَ نفسَهُ قاضيًا، فيُكَفِّرَ مَنْ يَكره، ويُزكي بالتَقوى مَن يُحب؟ وعجبًا كيفَ غابَتْ تلكَ الآياتُ الكريمةُ عن الَّذِين نصَّبوا أنفسهم قُضاةً على العبادِ، فيقضونَ بما لا يحقُّ لهم ويحكمونَ ظُلمًا على الناسِ ويمارسونَ القتلَ لِمَنْ يكفِّرونَه؟!
كيفَ عَمِيت أبصارُ هؤلاءِ عن كلامِ الله الَّذِي لا يَقبلُ التأويل أو التضليل؟! كيفَ وأحكامُه واضحةٌ جليَةٌ حَدّدَ فيها المولى عزّ وجلّ مسؤوليةَ الأنبياءِ ومسؤوليةَ خلقهِ من خلالِ استقبالِ الرسالة وتبليغ الأنبياءِ لهم بأن يختار الناس الدينَ الَّذِي يريدونَ بمنتهىَ الحريةِ وأنَّ حسابَهم عندَ الله جَميعًا:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء شَهِيدٌ﴾.. (الحج: 71)
ولم يمنح الخالقُ سُبحانَهُ أيّ نبيٍ أو رسولٍ أنْ يشاركَه في التشريعِ لخلقِه في كل ما يتعلق بشأن العبادات فاحتفظ بحقِّ التشريعِ له وحَده، وتركَ للأنبياءِ والرسلِ التبليغَ والشرحَ والتوضيحَ لمرادِ اللهِ لكلِّ آيةٍ من كتابِهِ الكريمِ لما ينفع الناس ويصلح حالهم رحمةً من الله بعباده وعند تكليفه للرسول عليه الصلاة والسلام بنقل رسالة الإسلام للناس حد الله سبحانه مهمة نبيه بقوله:
(وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب).. ( الرعد: 40)
وبهذه الآية لا يملك إنسان أن يحاسب الناس على عقائدهم وعباداتهم فالله وحده كفيل بهم.
لقد أمر اللهُ الناسَ في مُحكمِ كتابهِ بالتدبّرِ واحترامِ العَقلِ وتنميةِ الفكرِ والارتقاءِ به، وتنقيتهِ من الخُرافاتِ والأوهام وإِحكام المنطقِ والإيمان باعتماد القرآن وما في آياته من دلالاتٍ تؤكدُ للناسِ أن يُحرّروا عُقولَهم ولا يرتهنوا لمقولاتٍ تواترتْ عبَـر القرونِ ولا يقدّسوا الأشخاصَ مَهمَا بَلَغ عِلمهُم، فإنّهم بَشرٌ يُخطئونَ ويُصيبونَ، وما صاغَتْه أفهامهُم عبَر القرون الماضية حَسْب قدراتِهم الفكريةِ وحسْبَما أملتْ عليهِم ظروفُهم الاجتماعيةُ ومصالحِهُم الشخصيةُ وانتماءاتُهم.
المصدر:
«المسلمون.. بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي»، والصادر عن «دار النخبة للطبع والنشر والتوزيع»، للباحث والمفكر العربي علي محمد الشرفاء الحمادي.