- الخروج من المستنقع - 21 أبريل، 2019
- أي «علماء» نريد؟ - 12 أبريل، 2019
خلق الله الكون ووضع قوانينه، وترك للإنسان القضاء في الموجودات ضمن هذه القوانين وتماشيًا مع المعرفة، فكلما زادت معرفته زاد قضاؤه، دون أن تتغير قوانين الوجود.
فقانون الجاذبية مثلًا لا يمكن أن يتبدل، وسقوط طفل وعجوز من شاهق إلى الأرض سيؤدي إلى النتيجة ذاتها، ومن القوانين الأساسية لهذا الكون قانون التغير، فلا ثابت إلا الله.
وضمن هذا القانون تسير الإنسانية إلى الأمام، وتتقدم يومًا بعد يوم، فالطب اليوم لا يُقارن بما كان عليه قبل مائة عام، والتكنولوجيا حدّث ولاحرج.
ورغم ما يراه البعض إنحلالًا أخلاقيًا إلا أن القيم الإنسانية ما زالت ترقى وإن كانت بنسب متفاوتة بين مجتمع وآخر.
وإن كنا كأمة نحاول اللحاق بركب الحضارة، عبر استهلاك آخر منتجاتها على جميع الأصعدة، إلا أننا فكريًا ما زلنا نعيش في الماضي، نتغنى بأمجاد زالت، ونناقش أحقية زيد أم عمرو بالخلافة، ونتحزّب لهذا أو ذاك، ونتجادل في مدى صحة معايدة النصارى.
فلا وقت لدينا لاكتساب المعرفة ولا يهمنا القضاء في الموجودات، وكلنا ثقة بأن الله قد سخر لنا «الكفار» ليخترعوا ويكتشفوا ما يفيدنا بينما نحن نيام.
مجتمعاتنا قروية بامتياز
فنحن أمة عصية على التغيير، ومجتمعاتنا قروية بامتياز، لا بالمعنى الجغرافي للقرية، إنما بالمفهوم الاجتماعي ذي اللون الواحد الثابت، لا نقبل التعددية ولا الاختلاف ولا تجاوز ما كان عليه آباؤنا، ولا نعير انتباهًا لقانون أساسي آخر من قوانين الوجود وهو أن كل مجتمع قروي مصيره العذاب أو الهلاك: {وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} (الإسراء 58).
وإذا كنا نهوى نظرية المؤامرة، ونعلق كل أسباب تخلفنا على الاستعمار والغرب والامبريالية، إلا أنه لا يمكننا بحال من الأحوال إرجاع تخلفنا الفكري إلا إلى أنفسنا.
فأمهات كتبنا تعود لبداية التدوين، ونرفض المساس بقدسيتها، بل نسعى لتطبيق ما جاء بها على عصرنا الحاضر، دون الالتفات للزمان والمكان، ونُظُمنا المعرفية التي نعتمدها اليوم هي المعتمدة في القرنين الثامن والتاسع.
والإطار الإسلامي الذي نراه وُضعت أسسه في ذاك الزمان، ضمن الظروف السائدة حينها، سواء من حيث الفقه أم التشريع وكل ما يتبعهما، بما في ذلك قواعد اللغة العربية الفصحى.
تقديس سيبويه والشافعي!
فتقديس سيبويه وما جاء به لا يقل عن تقديس الشافعي، وكلاهما اجتهد مشكورًا وفق معطيات عصره، ولا ذنب له بأن من جاء بعده بقرون وقف عند قراءته، دون التقدم قيد أنملة بما يتناسب مع التطور الذي أراده الله تعالى سُنة للكون.
فلغويًا لم يتم أي تعديل بإمكانه أن يجعل اللغة سهلة على المتعلم، علمًا بأن التنزيل الحكيم هو مقياس الفصاحة، لا «الكتاب» الذي وضعه سيبويه.
وإذا كان التنزيل «شذّ» عنه، فهذا يعني أن المجال مفتوح أمام علماء اللغة حاليًا لتطوير ما يمكن تطويره.
أما الفقه الموروث، فالتنزيل الحكيم «شذّ» عنه بالكامل، ولا مشترك بينهما، ولا حاجة لنا للتذكير أيهما أسبق، ولا للمقارنة أيهما أهم، كتاب الله أم موسوعات الفقهاء.
علمًا بأن العقل الجمعي مستكين لرجال الفقه، وما يقوله هؤلاء يسيطر على المجتمعات، ورأينا أمثلة واضحة عن مدى تحكمهم بالشارع باسم الإسلام.
فالشعوب المقهورة التي لم تجد الطمأنينة في الدنيا، وقعت فريسة من أغراها بالآخرة شرط اتباع ما يراه هو مناسبًا، لا ما رآه الله تعالى..
وشتان بين الرؤيتين.
فالله سبحانه اختار الإنسان خليفة على الأرض وسخرها له ليعيش في سلام، ووضع له خطوطًا حمراء محدودة تقبلها فطرته، مهما كان جنسه ولونه وعرقه.
وتطورت هذه الخطوط تدريجيًا مع تطور الإنسانية، وجاءت الرسالة المحمدية لتختمها في رسالة رحمة عالمية أُمميّة، تقبل تحت مظلتها الناس جميعًا.
لكن دين الفقهاء شوّه هذه الرسالة وعقّد حياة أتباعها، وجعل من الحرام سيفًا مسلطًا على رؤوسهم، وبدل أن يكونوا رسل تطور وتقدم، تركهم يلوكون ما لاكه آباؤهم.
وأزمتنا الفكرية كبيرة لدرجة تتطلب المراجعة والبحث عن الخلل، وهو واضح وضوح الشمس، لكننا ندفن رؤوسنا في الرمال، تاركين للموقّعين عن الله التحكم في عقول أبنائنا.
ورُبّ قائل ما الحل؟
أقول: علينا تكريس القيم الإنسانية في مجتمعاتنا أولًا، ومن ثم التحرر من عقدة الذنب، ولنعلم أن الشعائر علاقة شخصية بحتة بين الإنسان والله تعالى، وشأن الآخرة بيد الله وحده، ولنستطيع أن نضع لمساتنا في هذا الكون علينا التمكن من القضاء فيما حولنا.
وهذا لا يتم إلا بالعلم والمعرفة، فلنلتفت لذلك بدل أن ننشغل بترهات لا تفيد، ونكسر كل الأصنام التي استبدت بعقولنا، ونمضي إلى الأمام بعيدًا عن قرون خلت، حينها فقط يمكننا الخروج من المستنقع.
المصدر:
مقال «كيف سنخرج من المستنقع؟» المنشور بالموقع الرسمي للدكتور محمد شحرور