- التراث بين التجديد والتقييد - 15 فبراير، 2020
- الخطاب الديني «الفاشل» - 7 مايو، 2019
هذا المقال
قد يبدو الكاتب ناقمًا على العرب ومهاجمًا لهم ويتصيد لهم الأخطاء، ولكنه في حقيقة الأمر ليس كذلك، بل إنه محبًا لعروبته ودينه الإسلامي فيعرض واحدة من السمات السلبية التي يراها الغرب في المواطن العربي، ويصر البعض على تصديرها للخارج بكل ما أوتي من قوة سواء بجهالة أو بسوء نية.
وفي موقع «التنوير» نعيد نشر هذا المقال أملًا في كشف الدواء الناجع لهذا الداء، فنعالجه وتسترد أمتنا صورتها الحقيقية، التي تم تشويهها خلال العقود الماضية، وديننا وعروبتنا منها براء، وخير دليل على ذلك أن هذه الأمة الإسلامية العربية لا يزال بين جنباتها من يحاولون دائمًا إعادتها إلى طريقها المستقيم.
يمكن اعتبار الشعوب الإسلامية من أكثر الشعوب تديّنًا ظاهريًا على مستوى العالم، كما أن كثافة المادة الدينية التي يتعرّض لها الفرد في المجتمع المسلم لا تنافسها أي مادة دينية يتعرض لها الفرد في الأديان الأخرى من حيث المؤشر العام لمجمل الحالات.
المواعظ الدينية بكل تنويعاتها، من «دروس علمية»، و«محاضرات توعوية»، و«مواعظ منبرية»، و«برامج إفتاء ونصح وإرشاد»، و«إذاعات وقنوات لبث القرآن … إلخ»، كلها تضخ مادة دينية مكثفة، عمادها «الأخلاق الفاضلة/ الأخلاق الإنسانية» في معظم الأحوال.
في المقابل، وكنوع من المفارقة المؤلمة، يبدو أن المسلك الأخلاقي للأغلب الأعم من الجماهير المستهدفة بهذا الخطاب الديني في حالة تضاد/ تناقض شبه تام مع مجمل المبادئ والقيم التي يحاول هذا الخطاب تثبيتها وترسيخها في عقول وقلوب أتباعه.
فكأنه إذ يُوصي بالأمانة ويعظّم مكانتها؛ إنما يُوصي بعدم الأمانة ويعزز من قيمة السرقة والاحتيال.
وكأنه إذ يُوصي بالصدق ويجعله معمار البناء الأخلاقي للفرد المسلم كما للمجتمع المسلم؛ إنما يُوصي بالكذب والخداع، ويدرجهما في باب الذكاء والدهاء.
وكأنه إذ يُوصي بالتسامح والعفو والرفق مع القريب والبعيد؛ إنما يوصي بالتشاحن والكيد والانتقام…إلخ المفارقات التي تُظهر الخطاب الديني في تنظيراته الجميلة وكأنه يُنتج ـ عن عمد ـ نقائضه على مستوى الواقع الأخلاقي.
يدعو الخطاب الديني إلى العفو والتسامح وتعزيز المحبة والإخاء، بينما المستمعون يتكارهون بغضب عارم.
الخطاب الديني في مرآة المستشرقين!
قبل سنوات نشر المستشرق/ المستغرب الياباني «نوبوأكي نوتوهارا» كتابه «العرب.. وجهة نظر يابانية»؛ بعد أن قضى في تعلّم اللغة العربية وآدابها أربعين عامًا تقريبًا، وبعد أن عاش متنقّلًا بين كثير من البلاد العربية لمدة عشرين عامًا.
وكان أبرز ما انتقده على العرب «الذين هم مسلمون في أغلبيتهم الساحقة/ عيّنة إسلامية دالّة» أنهم يفتقدون تطبيق ما ينادون به؛ فضلًا عن كثير من الأعطاب الأخلاقية، سواء على مستوى السلوكيات الرسمية/ المؤسساتية/ الحكومية، أو على مستوى السلوكيات الجماهيرية، التي تميل بمجملها إلى الكذب والخداع وانعدام الأمانة من جهة، وإلى الكراهية والعداء وتعمّد إلحاق الضرر بالآخرين من جهة أخرى.
لاحظ نوتوهارا، وبأسى عميق، أن الناس في المدن العربية الكبرى يفتقدون السعادة، فهو ـ كما يراهم ـ ليسوا سعداء.
والأهم أنه لاحظ أن نظراتهم «الـ: غير سعيدة» تحمل كثيرًا من العداء/ نظرات عدوانية.
كما لاحظ أن طريقة التعامل تخلو من الود، وأنهم مستعدون للإساءة إليك باللفظ دونما سبب؛ إذا توقعوا أنك لا تعرف لغتهم/ ما يقولونه عنك.
كما لاحظ أيضًا الأنانية المُفرطة التي تجعل من الفضاء العام فضاء للتخريب، أو للإهمال في أحسن الأحوال.
فالعربي ـ كما رآه ـ لا يهتم بنظافة ما وراء عتبة بيته، ما وراء عتبة البيت ليس ملكًا لأحد، ولهذا فهو ـ في نظر العربي ـ مباح، مباح لرمي القمامة فيه، ومباح لتخريبه، ومباح لنهبه إن كان مما يُنهب!
ازدواجية الشخصية العربية
أيضًا، لاحظ نوتوهارا أن للرجل العربي شخصيتان: شخصية الرجل المحافظ، وربما المتزمت، على مستوى بيته/ علاقته بأفراد عائلته وقرابته.
بينما له شخصية أخرى على مستوى رفقائه وأصدقائه/ خارج بيته، حيث شخصية الإنسان المتحرر من كل القيود التي يفرضها على عائلته أو تفرضها هي عليه.
ومن ثم، لا تدري أيهما هي شخصيته الحقيقية التي يجب عليك أن تأخذها على محمل الجَد عند التعامل معه، خاصةً في المجالات التي قد لا تكون واضحة من حيث تصنيفها في هذا المسلك الأخلاقي أو ذاك.
للأسف، ما لاحظه نوتوهارا صحيح إلى أبعد الحدود.
مَن يَذْرع العالمَ العربي من أقصاه إلى أقصاه سيرى هذه الأعطاب الأخلاقية وغيرها ماثلة للعيان؛ على تفاوت قليل بين بعض الأقطار، وخاصةً في الأطراف النائية.
في هذا العالم العربي ثمة أخلاق عالية/ راقية مُعلنة، بل يجري تأكيدها ـ نظريًا ـ باستمرار؛ فأصوات كبار ومشاهير القرّاء/ قرّاء القرآن تهدر بها الأسواق والمجمعات ووسائل النقل العامة.
فأنت تسمع القرآن على كل حال وفي كل مكان تقريبًا، تسمعه في كثير من القنوات التلفزيونية في البيوت، كما تسمعه عندما تخرج للشارع، حيث تتبرع المحلات التجارية برفع أصوات أجهزتها به، ويرفعه عاليًا قائد سيارة الأجرة، وقائد سيارة النقل العمومي، بل وحتى سائق الدراجة…إلخ.
ثم تجد ـ وعلى هذا المنوال ـ الأحاديث النبوية، والمواعظ الأخلاقية تتخلل هذه القراءات، فضلًا عن القصص الإرشادية، والأمثال العربية والشعبية.
نتيجة عكسية!
وكلها تدعو ـ بكل صرامة وتأكيد ـ إلى أجمل الأخلاق وأفضلها، تدعو إلى الصدق، بينما المستمعون يكذبون دونما أدنى حرج، ولأوهى سبب.
وتدعو إلى العفو والتسامح وتعزيز المحبة والإخاء، بينما المستمعون يتكارهون بغضب عارم، ويطوون الضمير على انتقام قادم.
وتدعو إلى الزهد في هذه الحياة المحدودة، وأن يكتفي المرء منها بالقليل، بينما المستمعون يتهارشون على فتات الفتات منها فيما يشبه السعار الجنوني.
وتدعو إلى العدل والإنصاف ومحاربة كل أشكال الظلم، بينما المستمعون يرون الظلم مسلكًا طبيعيًا للأقوى، وأن الحق هو حق القوة؛ لا قوة الحق.
وتدعو إلى الإحسان إلى الضعفاء والفقراء والأيتام واللاجئين والمشردين، بينما المستمعون منهمكون في ترتيب ولائمهم الباذخة واحتفالاتهم الصاخبة، وحائرون في الاختيار بين أنواع السيارات الفارهة، والرحلات السياحية الفاخرة صيفًا وشتاءً وربيعًا وخريفًا!
هنا تأتي الأسئلة التي تستشرف مقاصد هذا المقال: لماذا لا تُحدث هذه المواعظ القولية أثرها في المسلك الأخلاقي الواقعي؟
لماذا لا نرى شيئًا منها يتحقق على أرض الواقع ولو في الحدود الدنيا؟
لماذا يبدو الناس المستمعون/ المُخاطَبون أصالة بهذه المواعظ؛ وكأنما هم يسخرون بها من حيث لا يشعرون؛ عندما يتعمّدون الوفاء للألفاظ بترديدها، وخيانة المعاني ـ في الوقت نفسه ـ بفعل أضدادها؟
حل أزمة فشل الخطاب الديني
هل تكثيف بثّ هذه المواعظ وتوسيع دائرة الاستماع إليها هو مجرد تعويض بـ«القول» عن انعدامها من مجالات «الفعل» في الواقع؟
هل أصبح المسلك الأخلاقي المُتَسفِّل/ الرديء ضرورة حياة لا يمكن الاستغناء عنه؛ فيجري استحضار هذه النصوص الدينية/ المواعظ لتهدئة الضمير بها كتعاويذ (خاصة وأن مجرد قراءة/ استماع النص المقدس يضمن الثواب؛ كما يضمن التكفير عن الذنوب) تحاول درء الغضب الإلهي الذي تستنزله هذه المعاصي/ هذا المسلك الأخلاقي الرديء من عليائه؟
يدعو الخطاب الديني إلى العدل والإنصاف ومحاربة كل أشكال الظلم، بينما المستمعون يرون الظلم مسلكًا طبيعيًا للأقوى.
لا شك أن عموم الناس مرتبطون بضروريات الحياة، وغير قادرين ـ ذهنيًا وعمليًا ـ على تجاوزها، بل ولا حتى على التكيّف معها بما يحفظ المسلك الأخلاقي لديهم من أن يتردى تدريجيًا ليصل إلى الانحطاط في نهاية المطاف.
هناك قلة قليلة قادرة على رؤية تعقيدات هذه المسألة وتفاعلاتها، ومن ثم على تحقيق الاستثناء، أي على نقل هذه الإرشادات الأخلاقية من مجال القول إلى مجال الفعل.
وطبيعي أن هؤلاء لن يستطيعوا تعديل السلوكيات المجتمعية بمحض القول/ الموعظة/ الإرشاد، بل لا بد من نهوضهم بها في عمل مؤسساتي/ تشريعي، يدخل بها حيّز القوانين العامة، القادرة على ضبط أكبر قدر من السلوكيات قانونيًا في الفضاء العام؛ لتتحول هذه السلوكيات المضبوطة بقوة القانون ابتداء، إلى عادات أخلاقية سائدة في النهاية، بحيث تفعل فعلها حتى خارج رقابة القانون.
المصدر:
مقال « الخطاب الديني والمسلك الأخلاقي» المنشور في موقع الحرة