أركان الإسلام

الهجرة.. انتقال مسيرة الحق

سُنة كونية لتعمير البلاد ومزج الحضارات

عندما نتحدث عن الهجرة يجب أولًا أن نذكر تعريفها اللغوي، فهي الخروج من أرض لأرض أخرى بغرض الإقامة والمعيشة فيها وإن اختلفت الأسباب.

والهجرة سُنة كونية تعمّر بها البلدان وتمتزج عن طريقها الحضارات وتختلط الأجناس.

هناك هجرة من نوع آخر تختلف عن الهجرة بمعناها اللغوي المتعارف عليه، قد ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز حيث قال: «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» (المدثر:5).

وهنا الأمر بهجرة المعاصي، يتمثل فيها معنى الهجرة بعدم الرجوع.

«وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا» (المزمل:10).

فكان الأمر الإلهي للرسول عليه الصلاة والسلام، بهجر ما يقوله المشركون من أقوال تؤذيه، أي البعد عنهم بالمعروف، وهنا تتجلى سماحة الإسلام وتلقين إلهي لرسوله بمحاسن الأخلاق في المعاملة رغم الإيذاء.

إذن هناك هجرة مكانية وهجرة معنوية.

أعظم الهجرات

ومن أعظم الهجرات المكانية هجرة أنبياء الله..

فكانت منها هجرة نبي الله نوح (عليه السلام) حيث أمره الله بصنع السفينة وترك قومه لمصيرهم الذي كتبه الله عليهم بعد أن يأس نوح من استجابتهم لدعوته الطويلة لهم.

ومن بعده أنبياء آخرون أمثال إبراهيم ولوط وموسى ومحمد (عليهم الصلاة والسلام).

قال تعالى: «أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا» (مريم: 46)،

هاجر سيدنا إبراهيم (عليه السلام) بدعوته، بعد أن حاول جاهدًا دعوة أبيه وقومه ولم يستجيبوا له.

قال تعالى: «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ۘ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (العنكبوت:26).

وكذلك فعل لوط بناءً عن أمر الله سبحانه وتعالى وبعد تهديد قومه وعدم استجابتهم لدعوته . 

قال تعالى:

« قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ » (الشعراء: 167).

«فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ » (النمل:56).

وهكذا كانت سنة الأنبياء لنشر دعوتهم بعد تهديد أقوامهم لهم وذلك يتضح في قوله تعالى:

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا» (إبراهيم: 13).

وفي حديث لله عز وجل موجّه لرسوله الكريم، يقول تعالى:

«وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ» (الأنفال: 30).

فكان ذلك وعد من الله تعالى لرسوله بنصرته رغم كيد المشركين له وتشاورهم في أمر إيذائه، فأمره الله بالهجرة.

الهجرة انتصار لا فِرار

هجرة الأنبياء ليست فِرار كما يدّعي البعض، بل هي انتصار لمعاني الخير على الشر، فعندما هاجر الأنبياء كانوا على يقين بأن ما يدعون إليه من معانٍ للخير هي التي ستنتصر ولكن في أرضٍ أخرى بعيدًا عن أرض يجثم عليها الشر.

فعندما هاجر سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، كان على يقين بنصر الله وبإعلاء كلمة الحق، وذلك بعد أن زاد إيذاء المسلمين في مكة، ورغم حبه لها إلا أنه كان يريد أن يُعلي كلمة الله ويؤسس الدولة الإسلامية.

قال تعالى: «إلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (التوبة: 40).

الهجرة جهاد عملي

قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (الانفال:72).

كانت الهجرة بمثابة اختبار للمسلمين على كافة المستويات..

الذين هاجروا وتركوا ديارهم وأموالهم، والذين استقبلوهم في ديارهم ونصروهم من أهل المدينة، فكان ذلك جهادًا في سبيل الله، رفعهم الله به درجات وذكر ذلك في آيات القرآن.

قال تعالى: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » (التوبة: 100).

الدروس المستفادة من الهجرة

لا نستطيع حصر الدروس المستفادة من الهجرة، ولكن سنذكر بعضًا منها:

– الأخذ بالأسباب، فعلى قدر معرفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقدر المخاطرة التي سيتحملها وفي نفس الوقت يقينه بنصر الله له لم يمنعه ذلك من الاستعداد للرحلة وتأمينها.

– التخطيط الجيد سبيل النجاح مهما كانت العقبات.

– التحلّي بروح الأمل في أخطر المواقف.

– الحرص على الصحبة الصالحة فهي خير مُعين وقت الشدائد.

– اليقين بأن الخير لابد وأن ينتصر على الشر.

– ضرورة الاستقرار لبناء الأمم فكانت الهجرة للمكان الآمن المستقر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى