- القرية الظالمة - 30 أغسطس، 2023
- العقل والوجدان «الميتان» - 2 أغسطس، 2023
- العربي المأزوم - 16 مايو، 2023
الحياة والموت من الثُنائيات الشائعة بقوة فى الخِطاب «الوَعظى الحكائى»، كانت حاضرة لدى “وهب بن منبه”، وخطَت خطوات أوسع لدى دُعاة العصر. هذه الثُنائية تضعنا أمام خِطاب يُمجد الموت ويحتفى به، ويُحقِر الحياة، رغم أن مُروجيه قد يكونوا غارقين حتى آذانهم فى ملذات الحياة، لكن القول شىء والفِعل شىء آخر.
«جاء رجل إلى “وهب بن منبه” فقال علمنى شيئاً ينفعنى الله به، قال: أكثِر من ذِكر الموت واقصِر أملَك». التيئيس من الحياة مُرتكز أساسى من مُرتكزات الخِطاب الوعظى والحكائى. وربما كان الخيط الذى يفصل حكاءً عن آخر هو الموقف من الحياة، فأغلبهم يُروجون لـ«الموت»، وأندرهم من يُدافع عن الحياة.
«خطاب المَوتى» مُكوِن أساسى من مُكوِنات الأداء الوَعظى الحكائى، كما أصّل له “وهب بن منبه”، وسار على دربه «دُعاة الفضائيات».
واللافت فى هذا السِياق أنَّ الطَرح لفكرة الموت ونبْذ الحياة والزُهد فيها يتصادَم مع العديد من الآيات القرآنية التى تحتفى بالحياة، ولا تمنع الإنسان من التمتُع بها.
مثل قوله تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (الأعراف :32) ، وقوله تعالى: «وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (البقرة:201)
يتصادم هذا الخِطاب المُروِج لـ«الرهبانية» أيضاً مع ما نصَ عليه القرآن من رفْض لهذه الفكرة: «..وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ» (الحديد:27)
بالغ “وهب بن منبه” فى رواية أخبار العرب فى الجاهلية، وروى أخبار غير العرب التى استقاها من الكُتب المُقدسة، وغلَب على أخباره طابع القصَص الشَعبى الخُرافى، ورغم يقين الكثير من المُؤرخين الذين نَقلوا عنه بخلطِه بين الواقِع والأسطورة، والحقيقة والخيال، إلا أنهم أخذوا عنه وحشدوا حكاياته ورواياته فى كُتب التُراث، وبالغوا فى توظيفها بصورة أدت إلى سردية خطابية يعوزها العقل والمنطِق فى كثير من مواضعها. كان «ابن كثير» كعادته ناقداً للكثير من مروياته -تماماً مثلما فعل مع “كعب الأحبار”- لكنَّه لم يتردد فى تدوين كل ما سمعه عنه فيما كتَب، أما «الطبرى»، وهو واحد من كبار المؤرخين والمُفسرين للقرآن الكريم، فقد أفرَط هو الآخر فى النقْل عن “وهب بن منبه”.
عاش “وهب بن منبه” يُزهِّد الناس فى الدُنيا، وينشُر فى ربوعها «خِطاب الموت»، رغم أنَّه كان ينعَم بكل ما فيها، ويفعل كل ما يفعله عائشُوها، بما فى ذلك الغضَب الذى صنفَه كبوابة من بوابات إبليس إلى بنى آدم. يَحكى «الذهبى»، صاحب كِتاب «سيَر الأعلام والنبلاء»، أن “سمّاك بن الفضل” قال: (كُنا عند عروة بن محمد الأمير، وإلى جنبه «وهب»، فجاء قوم فشَكوا عاملهم وذكروا منه شيئاً قبيحاً، فتناول «وهب» عصا كانت فى يد «عروة» فضرب بها رأس العامل حتى سال الدم، فضحك «عروة» واستلقى وقال: يعيب علينا «وهب» الغضب وهو يغضب! قال: وما لىَ لا أغضب وقد غضِب الذى خلق الأحلام، يقول تعالى: «فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ…» (الزخرف:55)
المصدر:
موقع «الوطن»