الخطاب الإلهي يتنبأ بهجر القرآن (2)
ماذا ستكون حجة القوم الذين تولوا الدعوة والإرشاد ومنعوا الناس من التدبر في آيات الله

إستعرضنا في المقال السابق، كيف تنبأ الخطاب الإلهي مُمَثلًا في آيات القرآن الكريم ، بهجر كِتاب الله بعد وفاة الرسول الكريم، (صلى الله عليه سلم).
وهو ما حدَث بالفعل عندما غجتمع المسلمون في( سقيفة بني ساعدة) يتنافسون عمّن أولى بقيادة أمور الدولة الإسلامية.
وفي الأسطُر التالية نستكمِل ما بدأناه، حولَ الآيات الدالة على تنبوء الخِطاب الإلهي بهَجْر القرآن الكريم بعد وفاة رسول الله.
2) كَمَا قالَ تَعَالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّۖ فَبِأيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ (الجاثية :6).
فإنَّه تحذيرٌ واضحٌ وتوجيه بِعَدم إتباع أي روايات أو أحاديثَ أو مفاهيمَ بشريّة تُخالِفُ كلامَ اللهِ، عندَما تمَّ إضفاءُ هالة من القُدسيّةِ على تلكَ الرواياتِ بالرغم ممّا فيها مِن تَنَاقُض صَادِم لآيات الله.
فاللهُ يريدُ لعباده التمسُك بِما جاء في كتابه العزيز ليِحَميَهم من الوقوع في الصراع والتقاتل ويريدُ لهمْ الخيرَ والسعادةَ في الدُنيَا والآخرةِ وأن تكونَ لهمْ مرجعيةٌ واحدةٌ هي القرآنُ الكريمُ، الخِطابُ الإلهي.
وأن يتبعوا إمامًا واحدًا هو محمد رسول الله، الذي بعثه الله رحمةً للعالمين، ليدعوهم لما يُصلِحهم ويهديَهم إلى طريق الخَير والسلام.
فخالف المسلمون أوامر ربهم وانصرفوا بالروايات عن الآيات، فنقرأ في الآية التالية أنَّ الرسول يشتكي أُمته بإبتعادهم عن القرآن الكريم ولم يتبعوا آياته.
3) قالَ سُبحانَهُ وتَعَالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ (الفرقان :30).
فماذا ستكون حُجة القوم الذين تولوا الدعوة والإرشاد، واختزلوا تفسير القرآن الكريم، ومنعوا الناس من التدبُر في آيات الله، أمام الخالق سبحانه يوم الحساب، بأنهم هَجَروا القرآنَ.
بالرغم من تحذير الله لهم مُنذ أربعة عشر قرنًا من خُطورةِ الإبتعاد عن القرآن والتقيّد بأوامر اللهِ وتشريعاتهِ، فيما نِصَّ عليهِ القرآنُ الكريمُ، دستورًا من الله ليُضيء لهم طريقَ الحياة، ويعينَهم على تحقيقِ السعادة في الدُنيا، ويؤمّن لهمْ حَياةً طيبةً في الآخرةِ، ويُسكنَهم جنات النعيم.
وإذا كان رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)، يشتكي أُمتهُ للهِ سُبحانَهُ، بأنّهم هجروا القرآن تحذيرًا للمسلمين من قيامِهم من الإنصراف عنه، فكأنَّ الآيةَ تُنْبِئ الرسول بأن قومه سيفعلون ذلك وسيهجرون القرآن ويتبعون أقوال الشيطان.
فالله يأمرهم بالتمسُك بكتابه وعَدَمُ تصديقِ الروايات أو إتباع الإشاعات أو الإسرائيليات، التي تَدّعي على لسانِ رسول الله افتراءً وكذبًا، تتعارضُ مع القرآن بُغيةَ تحقيقِ مصالح دنيوية لتُثير الفِتن بين المسلمين وتهدمُ مرجعيةَ القرآن من قِبَلِ أعداءِ اللهِ وأعداءِ المسلمين، وتحقق مصالح المُغرضين الذين لا يريدون خيراً للمسلمين.
4) لقد وضَعَ اللهُ سُبحانَهُ وتعالى، تشريعًا لخلقه مبنيًّا على حُرية الإعتقادِ والعدالةِ بأعظم صِفاتها، حيث يقولُ تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْۖ فَمَن شاءَ فلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرۚ إِنَّا أعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ (الكهف :29).
وهي آيةٌ فيها من البيان والوضوح، مؤكدة حرية الإعتقاد والإختيار لكل إنسان، وعندما يُخاطِبُ الله نبيّهُ يبين له أن الإيمان لا يتم بالإكراه، والله سبحانه لديه القُدرة أن يجعل الناس جميعًا مؤمنين.
ولكن اقتضت حكمته بمنحِه الإنسان حُرية الإختيار، التي على أساسها سيتم مُحاسبة الناس على إيمانهم وأعمالهم، كما قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًاۚ أفَأنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنـِينَ) (يونس: 99).
وتتكرر ذات المفاهيم، وتلك المقاصِد في أكثر من مرةٍ، بغضِّ النظر عن طبيعة ومعرفة التبعات الناشئة عن هذه الحُرية، لكنّ اللهَ سُبحانهُ وتعالى لم يعطِ حقّه لغيره في مُحاسبة عباده بل أبقى له هذا الحق حَصْرًا.
حيثُ قالَ تَعَالى مُخاطِبًا نبيهُ (صلّى اللهُ عليه وسلم ) بقوله : (وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ) (الرعد:40)
ويتكرّر التوجيهُ والتوضيحُ، بشأن صلاحياتِ الرسولِ (صلى اللهُ عليه وسلَم ) فقال تَعَالى: ﴿قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلنفْسِه وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾ (الأنعام: 104).
وقَالَ تَعَالى: ﴿إِنَّا أنزَلْنَا عَلَيَكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَاۖ وَمَا أنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ (الزمر: 41).
المصدر:
«المسلمون.. بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي»، والصادر عن مؤسسة رسالة السلام للأبحاث والنشر، للباحث والمفكر العربي علي محمد الشرفاء الحمادي.