رؤى

على خُطى «داحس والغبراء» (1-4)

وبعد 40 عامًا أُُسدِل السِتار على حرب مُفزعة شوّهت التاريخ الإنساني

د. محمد أبو زيد الفقي

هذا المقال:

يكشف الكاتب من خلاله واحدة من الأزمات التي يعيشها المجتمع العربي وهي العناد والتحيز للرأي وعدم وجود ثقافة الحوار وغلبة الأهواء الشخصية والنزعات القبلية والتمسك بالموروثات البالية، إلا أن ما ورد بالمقال لا يعني أن كل العرب يفعلون ذلك بل هناك من بينهم من يمتلكون ناصية الحكمة وبذلوا ما في وسعهم للحد من تلك الآثار السلبية فأحيانًا ينجحون في مسعاهم الحميد وتارة لا يكون التوفيق حليفهم
وأخيرًا نؤكد أن العرب مثلهم مثل كل الأمم.. لهم ما لهم.. وعليهم ما عليهم.. فلا عصمة لأمة أو بشر.

 

في التاريخ العربي حدث صراع بين قبيلتي عبس وذبيان ومن وقف معهما، واستمر القتال 40 أربعين عامًا.

وسبب هذا الصراع كما سُجَّل في التاريخ: هو خلاف على حصانين هما داحس والغبراء.

وقامت قبيلة ذبيان بتجهيز جيش جرّار، للإغارة على قبيلة عَبْس، ولما علمت عَبْس جهزت جيشًا للرد على هذه الحملة العسكرية.

وكان قائد الحرب في عَبْس هو الأمير كُلَيب [تصغير كلب]، وكان له أخ ذو بأسٍ شديد تتحدث بفروسيته الرُكبان اسمه الزير سالم، إلا أنه لم يشارك في الحرب في البداية، لأنه لم يكن مقتنعًا بقيام حرب بدون سبب مهم، وبدون تفاهم، وبدون محادثات، كان من الممكن أن تدفع فيها عّبْسٌ تعويضًا عن هذين الحصانين ولو بعشْر أمثالهما.

ولكن الأمير كُليب لم يلتفت إلى أفكار أخيه الزير سالم، ودقّت طُبول الحرب، وبعد عشْر سنوات من صَولات وجولات وقتْل عدد كبير من القبيلتين.

 

مقتل الأمير كليب

قُتِل كُليب بيد أحد فرسان ذبيان، وعند هذه النقطة تعقدت الأمور، وتدَّخل بعض وجَهاء الجزيرة العربية، لإنهاء الصراع.

وأخذوا ابن أمير ذبيان الذي قتل كُليب وذهبوا به إلى عبْس، وكتّفوه ووضعوا السيف على عُنقه وطلبوا من ابن كُليب «هجرس»، أن يقتله مكان أبيه كُليب.

فقام بين الجموع الحاشِدة، ورفع السيف، وهوى به على عُنق ابن أمير ذبيان فقطَعه، ثم قال للجموع الحاشدة، هذا العُنق لا يساوي رِباط نعل كُليب، [شسع نعل كُليب] ثم طلب من ذبيان الاستعداد لحرب طويلة يتم فيها فَنَاء القبيلتين، وتواعدوا على القتال.

وبدأت عجلة القتال تدور، وعاد وجهَاء الجزيرة يتوسطون، فإذا ذهبوا إلى هجرس قال لهم: لا أقبل أي شيء في قتل فارس العرب كُليب.

وإذا ذهبوا إلى أمير ذبيان يقول لهم: لا يمكن عمل هُدنة أو تصالُح مع رجل قتل ابني في رباط نعل كُليب [إنَّ قتْل الرجال بالشسع غالي].

الزير سالم ينضم إلى حرب داحس والغبراء

وتدور الحرب وبعد عشر سنوات أخرى، قامت ذبيان بقتْل هجرس، ولم يعُد أحد من الرجال في أسرة كُليب، وما تبقى هما بنتان: اليمامة والحمامة.

وكان عمهما الزير سالم يحبهما جدًا، فذهبتا إليه وطلبتا منه النزول للقتال للأخْذ بثأر كُليب، وهجرس.

ونزل الزير سالم، ودارت عجلة الحرب، وكانت بعض القبائل تسانده حتى لا تنتهى الحرب، وبعضها يساند الطرف الآخر لنفس السبب.

وبعد عشرين عامًا أخرى استطاع الزير سالم القضاء على فرسان قبيلة ذبيان، ومَنْ شاركهم في الحرب، وتم سبي النساء وأَسْر الولدان، وقتْل الشيوخ، إلا أنه طلب من فرسانه عدم قتْل المرضى.

وعمَّ السلام في الجزيرة العربية بعد حرب 40 أربعين سنة بسبب داحس والغبراء.

وسُمّيت هذه الحرب في التاريخ العربي بحرب داحس والغبراء.

وعندما كبر الزير سالم أعلن للناس أن ابنة أخيه اليمامة ستصبح زعيمة لقبيلة عبس، وترك القصر لها ولأختها.

وطلب تجهيز ثلاثة جِمال له ولاثنين من عبيده، وحمل معه ما يكفيه من المال وطلب أن يطوف في الأرض حتى تأتيه منيَّته، وسار مع العبدين.

وبعد ثلاثة أشهر قرر العبدان قتْل الزير سالم والتخلُّص منه دون أن يعلم.

الحرب تضع أوزارها

وسمع الزير سالم ما اتفق عليه الاثنان، فقال لهما في الصباح سمعت ما عقدتما العزم عليه، ولا مانع عندي، ولا اعتراض عليه، ولكن أرجوكما بعد أن تواروني الثرى، أن تعودا إلى قصر اليمامة والحمامة ، وتصيحان بهما، وتقولان: [يا أيها البنتان إن أباكما ما].

فعادا وفعلا ما طُلِب منهما، وعندما سمعت الحمامة ما قالا لم تفهم شيئًا، ودخلت إلى القصر وأخبرت أختها بعودة العبدين وقولهما.

ففهمت اليمامة رسالة عمها، وخرجت من شُرفة القصر، وأمرت الحرّاس أن يحاصرا العبدين بدون أن يشعرا

ثم جاءت إليهما وقالت لهما: أعيدا عليَّ ما قلتماه منذ قليل.

فقال العبدان: [يا أيها البنتان إن أباكما (ما)]

قالت تكمل البيت: [مات وما قتله إلا الذي خبرَّنا].

وأمرت بقتْل العبدين، وأخْذ ما معهما من مال، وأُسدِل الستار على أغبى حرب في التاريخ الإنساني.

المصدر:

مقال «خلفيات العقل العربي – انتكاسة الفكر» المنشور بالموقع الرسمي للدكتور محمد أبو زيد الفقي..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى