القتال في سبيل الله (1-2)
لقد قرر القرآن شروط القتال ومبرراته من خلال آيات متعدّدة تتحدث عنه

- الصراع الأبدي بين الخير والشر - 25 سبتمبر، 2023
- حرب نفسية أهدافها عدوانية - 23 سبتمبر، 2023
- الوعي يئد الشائعات والمواطن المصري يحمي وطنه - 21 سبتمبر، 2023
إنَّ الخطابَ الإلهي شَمَلَ تشريعاتٍ عِدّةٍ ومِنها تشريعٌ فيما يتعلقُ بالِقتالِ في سبيلِ اللهِ فقد وضع الله تشريعا وقاعدة تحدد متى يكون القتال بقوله سُبحانَهُ وتعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة 190)، وهو الحقُّ المشروعُ لكلِّ الناسِ للدفاع عن النفس والممتلكات وعن الأسرة وعن التعدّي على حقوق الناس بكل السبل والوسائل التي تردّ الاعتداء أو تعيد الحقوق لأصحابها. وهذا التشريع ليس موجهًا لقوم غير قومٍ أو لأصحابِ ديانةٍ دون أخرى، إنّما هو تشريع إلهي عام للناس جميعًا.
هذه الآيةُ الكريمُةُ حدّدتْ بكلِّ وضوحٍ مُقاتلةَ المعتدينَ، والّذينَ جَاءوا للقتالِ أو الاعتداء على أناس مسالمين، ولذا فإنّ كلَّ آياتِ القتالِ التي جاءتْ في القرآنِ الكريمِ، والتي تَحُثُّ على القتالِ منظبطة وفق التشريع الإلهي الذي تضمنته الآية المذكورة أعلاه وما عدا ذلك من آيات متعددة ذكر فيها القتال وكيفية القتال في مواجهة المعتدين، إنّما هي تعليمات إلهية تنظم طرقَ القتالِ وكلّها تندرجُ تحتَ حُكم القاعدةِ الأساسيةِ في الآيةِ المذكورةِ أعلاهُ وفي حالاتٍ محدّدةٍ تكونَ مقاتلةُ المعتدينَ كما يلي:
أولًا: في حالةِ نقضِ عهودِ السلامِ بينَ الطرفينْ، واستعداد أحدهما للهجوم المباغت على الطرف المزمع الاعتداء عليه.
ثانيًا: في حالةِ الاعتداء المباشرِ على الآمنين في القرى والمدن ومواجهة العدوان بكل القدرات المتاحة.
ثالثًا: في حالةِ التجهيزِ والإعداد لتدريب الجيوش وتسليحها لصد الهجمات من قِبلِ الأعداءِ الذين جاءوا لقِتالِ الـمسلمينَ.
رابعًا: الاعتداء والغارات المستمرة على المسلمين، واستباحة أراضيِهم ونَهْبِ ثَرَواتِهم وسبْي نِسائِهم واستباحة حرماتهم.
كلُّ تلكَ الحالاتِ المذكورةِ تتفقُ تَمامًا مَع الآيةِ المذكورةِ أعلاهُ، وبالرّغمِ مِن ذلك وضَعَ اللهُ سُبحانَهُ وتعالى قاعِدةً أخرى رَحيمة بكلِّ الناسِ ولحقن الدماء في تقليلِ الخسائرِ وتضميدِ الجراحِ بَقْوله تَعَالى ﴿وَإِن جَنَحوا لِلسَّلمِ فَاجنَح لَها وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ العَليمُ﴾ (الأنفال آية 61)، وذلك ممّا يؤكّدُ مرادَ اللهِ في الآياتِ المذكورةِ أعلاه، بشأنِ الدفاعِ عَنِ النّفسِ وعَدمِ الاعتداء على الغيـرِ وتُؤسّس لِتِلكَ القاعدةِ الآياتُ التّاليةُ:
1) قولُهُ تَعَالى ﴿وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلّا بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظلومًا فَقَد جَعَلنا لِوَلِيِّهِ سُلطانَا فَلا يُسرِف فِي القَتلِ إِنَّهُ كانَ مَنصورًا﴾ (الإسراء 33).
2) قولُهُ تَعَالى ﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَا لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمَ وَلَا تَقْتُلُوا أنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكَمْ رَحِيمًا﴾ (النساء 29)، وقوله تَعالى ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أنَّهُ مَن قَتَلَ نَفَسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرض لَمُسْرِفُونَ﴾ (المائدة 32).
إذا كانَ السابقونَ وفقَ قدراتِهم المعرفيةِ، فاتَهم التدقيقُ والتمحيصُ في مرادِ اللهِ فلم يُفرقوا في تشريع اللهِ ومرادهِ بأنّه سُبحانَهُ وضَعَ قواعدَ تشريعيةً تحكمُ تصرفاتِ المسلمين على أسسٍ من العَدالةِ والرحمة وتقليل الخسائر في الأرواح، وعندما عجزوا في استجلاءِ تلك المقاصدِ واعتبروا آياتِ الِقتالِ دعوة للقتال وأنها نَسختِ القاعدةَ الرئيسيةَ التي وُضعتْ في حقِّ الدفاعِ عن النفسِ والتي جاءت في قوِلهِ تَعَالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة 190).
وهي الآيةُ التـي تعتـبرُ المرجعَ الوحيدَ لكلّ حالاتِ القتالِ، وما وَردَ في القرآنِ الكريمِ من آياتِ القتالِ فهي بين تشريع الدفاع عن النفس وبين طرق القتال وكيفية مواجهة الأعداء وما يتطلبه من الإعداد الجيد من تدريب وتسليح لردع العدوان والدفاع عن الوطن والنفس والأعراض، وعدم الاعتداء كما جاء التشريع الإلهي في الآية المذكورة أعلاه وأصبحت قاعدةً لحكمٍ عام يتبعه المسلمون. علمًا بأنّ الآيةَ المذكورةَ تضمّنتْ أمرَ اللهِ بعدمِ الاعتداء على الإطلاقِ على الناس.
فلقد قررت الآيةُ المذكورةُ شروطَ القتال ومبرراته وقد جاءت بعدها في سور عدة آيات متعدّدة تتحدّث عن القتالِ، تشرحُ فيها طرقًا للقتال أثناءَ المعاركِ الدفاعية، وأيضًا يتعلمُ منها المسلمون إدارةَ القتالِ وأساليبَهُ أثناءَ المعارك وليست أوامر للمسلمين بقتل من لا يؤمن بدينهم على الإطلاق. وقد نهى الله سبحانه وهو يخاطب رسوله عليه الصلاة والسلام بقوله (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) (يونس 99)، وتأكيدًا لذلك فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكُم فَمَن شاءَ فَليُؤمِن وَمَن شاءَ فَليَكفُر إِنّا أَعتَدنا لِلظّالِمينَ نارًا أَحاطَ بِهِم سُرادِقُها وَإِن يَستَغيثوا يُغاثوا بِماءٍ كَالمهُلِ يَشوِي الوُجوهَ بِئسَ الشَّرابُ وَساءَت مُرتَفَقًا﴾ (الكهف 29)، وكلا الآيتين تقرران أن الله سبحانه منح الحرية المطلقة للناس حقا في اختيار العقيدة التي يتعبدون بها دون إكراه أو فرض، إضافة إلى ذلك فالله يأمرنا إذا انتصرنا على العدوان، بالاستجابة لطلبهم السلام بقوله سبحانه: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه السميع العليم) (الأنفال 61)، فيجب على المنتصر قبول السَّلام رحمةً بالناس لتقليل الخسائر وحقنًا للدماء كما أنّهُ سبحانه وضع تشريعًا للأسرى وكيفية التعامل معهم (فإمّا مَنًّا وإمّا فِداءً) كما جاء في قوله سبحانه: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإمّا منًّا بعد وإمّا فداء حتى تضع الحرب أوزارها) (محمد 4)، فأعطى من لديه أسرى حرية الاختيار بين أن يطلق سراح الأسير تكرمًا أو أن يتم أخذ الفدية من قومه في سبيل إطلاقه وإعطائه حريته دون أن يمسه الأذى أو التعذيب. تلك القواعد الإنسانية رحمة بالناس أمر الله الناس باتباعها ولكنهم للأسف اتخذوا الروايات التي تنفث سموم خطاب الكراهية والقسوة وقد وصفهم الله سبحانه بقوله: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) (البقرة 10).
المصدر:
«المسلمون.. بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي»، والصادر عن «دار النخبة للطبع والنشر والتوزيع»، للباحث والمفكر العربي علي محمد الشرفاء الحمادي.