بداية الطامة الكبرى (2-2)
الشعائر والعبادات هي وسائل دينية للوصول إلى المقاصد الأخلاقية

استعرضنا في المقال السابق، نتيجة ما ارتكبناه من جريمة في حق عقيدتنا الإسلامية والتي بدأناها باختزال أركان الإسلام في خمس عبادات فقط، فحلت بنا الطامة الكبرى، فصارت المساجد عامرة بالمصلين والأراضي المقدسة تزدحم كل عام بملايين الحجاج والمعتمرين، وفي نفس الوقت ارتفعت معدلات الجريمة الأخلاقية في مجتمعاتنا، ما بين قتل وسفك دماء وسرقة ورشوة وظلم وفساد.
ويستكمل الباحث والمفكر الإماراتي علي محمد الشرفاء الحمادي، في هذا المقال الجزء الثاني من كشفه لتلك الحقيقة المفزعة، والتي تضمنتها سطور كتابه «المسلمون.. بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي»، والصادر عن «دار النخبة للطبع والنشر والتوزيع»، فيقول: «وحج بيت الله الحرام، حيث يرى الناس أنفسهم جميعًا من شتى بقاع الأرض متساوين في الملبس والمسكن، تذوب الفوارق بين الناس حينما يتساوى الملك والصعلوك، والغني والفقير، والقوي والضعيف، والكل أعناقهم مشرئبة للسماء والكل ينادى لبيك اللهم لبيك والله أكبر مما نخاف ونحذر، فلا كبير غير الله ولا غني غير الواحد الأحد وَلَا ملك غير الحي القيوم.
يستهدف حج بيت الله التعارف بين المسلمين من أجل تحقيق مصالح ومنافع بينهم، حيث يقول سبحانه تعالى:
(لِيَشهَدَوا مَنافِعَ لَهُم وَيَذكَرُوا اسمَ اللَّهِ في أيّامٍ مَعلوماتٍ عَلىٰ ما رَزَقَهُم مِن بَهيمَةِ الأنعامِۖ فَكُلوا مِنها وَأطعِمُوا البائِسَ الفَقيرَ).
( الحج: 28 )
وتحقق تلك الرحلة الدينية ممارسة عملية للتواصل بين الناس والتعارف، كما يتخلى الإنسان عما لحقه من شوائب وآثامه في حياته الماضية فيلجأ إلى الله بالذكر والدعاء أثناء الطواف والسعي، حيث نرى كل إنسان مشغولًا بنفسه وكل إنسان يسعى ملبيًا وداعيًا الله أن يغفر له ما اقترفه من ذنوب راجيًا توبته ورضاه، فيدرك الإنسان بعد عودته، من الحج أو العمرة، إلى وطنه يراجع حساباته ويؤكد استمرار صلته مع الله في عبادته وعمله، حيث يعود إلى رشده ويدرك حقيقة خلقه ويستمد الطاقة من ربه وترتقي بذلك نفسه، يرجع لوطنه وقد ازداد إيمانًا وأدرك قيمة الحياة؛ فهي متاع الغرور، ليصحِّح من سيرته فيتحسَّن سلوكه ليعيش حياة سعيدة مطمئنة وراضية بما قسم له الله من رزق وصحة.
وأما الصوم في شهر رمضان، فهو التزامٌ بطاعة الله وتدريب النفس على السيطرة على الشهوات وكبح جماحها عن كل ملذات الحياة والانقطاع لعبادة الله وحده، والتحلي بالأخلاق الفاضلة بممارسة التسامح مع الناس والإحسان إليهم والإعراض عن اللغو، ولا يتعالى على خلق الله ولا يأكل أموال الناس بالباطل وأن يتحلى بالصدق والوفاء بالعهود والعقود وعدم الاعتداء على الناس باللسان أو باليد، والابتعاد عن النميمة يطهر النفوس فترتقي إلى مصاف عباد الرحمن الذين استقاموا على الصراط المستقيم وتسابقوا إلى الخيرات وعملوا الصالحات.
فكل الشعائر والعبادات هي وسائل لتلك المقاصد الأخلاقية، ذلك أنَّ الإسلام يتمحور في عنوان الأخلاق العالية التي دعا إليها القرآن، وهي نفسها الأخلاق التي دعا إليها الأنبياء والتزموا بها عليهم السلام حتى مبعث الأمين محمد- صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء والمرسلين.
إذن لا يوجد نصٌّ في القرآن جاءت آياته تقول إنا أرسلنا رسولنا ليقيم الناس الصلاة والزكاة والصوم والحج، فهذه ليست مقاصد الخالق سبحانه ومراده لخلقه، وإنما هي فرائض وشرائع ليست مطلوبة لذاتها، وإنما وسائل مطلوبة لغيرها، وهو تحقيق العبودية لله تعالى والاستخلاف وعمارة الأرض.
ولذلك أرسل الله الرُّسُل وأنزل معهم كتبه ليقوم الناس بالقسط في كل الأعمال الخيرّة والفضائل والأخلاق التي من موجباتها الارتقاء بأخلاقيات الإنسان حتى لا يفسدوا في الأرض أو يعتدوا على الناس ويسفكوا الدماء، ولكي يخلف بعضهم بعضًا ويعمروا الأرض حق عمارتها، ليكونوا قد أدوا الأمانة فينالوا بذلك سعادتهم في الدنيا والآخرة».