رؤى

ما هي العَلمانية؟

والمأساة تكمن فى أن كل ما يكتبه التيار الأصولى الإسلامى يستقى تعريفاته من أصوليين آخرين

تُعد العَلمانية من أكثر الكلمات فى قاموسنا اللغوى تعرُضاً للظُلم البيِّن والخَلط الشديد، عن عَمْد أو عن جَهْل. وهى قد أصبحت وصمة عار لكل من يتلفظ بها، أما من يجرؤ على أن ينتسِب إليها فقد اقتربت رقبته من مَقصلة التكفير، وأصبح هدفاً لحد الرِدة، وكيف لا وهو مُنكِر لما هو معلوم من الدين بالضرورة فى رأى دُعاة الدولة الدينية؟!

والسبب فى هذا الموقف المُعادى للعَلمانية هو الخلْط بينها وبين الإلحاد، أما السبب الأقوى فهو أن العَلمانية ستسحب البُساط من تحت أقدام المستفيدين من دعوة الدولة الدينية والمنظِّرين لها، فهى تدعو لحوار الأفكار على مائدة العقل، وتعريَتها من رِداء القدَاسة الذى يُغطيها به هؤلاء الدُعاة للوصول إلى أهدافهم. وهذا كله يجعل من المسألة مسألة بَشرية بَحتة، فإذا كان حديثهم عن البركة فى الإقتصاد الإسلامى حوّلته العلمانية لحديث عن مُحاولة خفْض نسبة التضخُم وزيادة الدخل القومى، وإذا كان كلامهم عن الحاكِمية حوّلته العلمانية إلى كلام عن الديمقراطية والدستور لتنظيم العلاقات بين البشَر، فالله جل جلاله لا يحكم بذاته ولكنْ عن طريق بشَر أيضاً لهم أهواؤهم ومصالِحهم التى لا بد من تنظيمها، وإذا كانت قضيتهم هى قراءة الماضى، فقضية العلمانية هى صِياغة المستقبل.

وفى السبعينات، كتب د. “زكى نجيب محمود” مقال فى جريدة الأهرام تحت عنوان «عين – فتحة – عا» محاولاً فيه تفسير معنى «العَلمانية» التى كانت مُلتبسة على الكثيرين، حتى إنَّ مُجرد نُطقها بفتح العين أم بكسرها صار يمثل قضية تستحق الطرح على صفحات الجرائد، فيكتب “زكى نجيب محمود”، بوضعيته المنطقية الساعية لتحديد الألفاظ وفَك الغموض عن معانيها: «سواء كان المُتحدث مُهاجماً أم مدافعاً، فكلاهما ينطِق اللفظة مكسورة العين وكأنها منسوبة إلى العِلْم، مع أن حقيقتها هى العين المفتوحة نسبة إلى هذا العَالم الذى نقضى فيه حياتنا الدنيا (……)، ولو كان الفرق فى المعنى بين أن تكون العلمانية مكسورة العين أو مفتوحة العين فرقاً يسيراً يمكن تجاهله لقلنا إنه خطأ لا يُنتج ضرراً كبيراً، ولكن الفرق بين الصورتين فى نُطق الكلمة فرق لا يُستهان به مما يستوجِب الوقوف والمُراجعة».

ويُعلل “زكى نجيب محمود” هذا بأن «كلمة العَلمانية ليس لها وجود فى اللغة العربية قبل عصرنا الحديث، فالكلمة هناك لها عند القوم أهمية وتاريخ على عكس الحال عندنا».

ويعترض د. “فؤاد زكريا” على الضجة التى أُثيرت حول إستخلاص كلمة العَلمانية بفتح العين من العَالم أو بكسر العين من العِلم، ويعتبرها ضجة مبالغاً فيها لأن كلاً من المعنيين لا بد أن يؤدى إلى الآخر «فالشُّقة ليست بعيدة بين الإهتمام بأمور هذا العَالم وبين الاهتمام بالعِلم، وذلك لأن العِلم بمعناه الحديث لم يظهر إلا منذ بِدء التحول نحو إنتزاع أمور الحياة من المؤسسات التى تُمثل السُلطة الروحية وتركيزها فى يد السُلطة الزمنية، والعِلم بطبيعته زمانى لا يزعُم لنفسه الخلود، بل إنَّ الحقيقة الكُبرى فيه هى قابليته للتصحيح ولتجاوز ذاته على الدوام، وهو أيضاً مُرتبط بهذا العَالم، لا يدّعى معرفة أسرار غيبية أو عوالم روحانية خافية، ومن ثمَ فهو يفترض أن معرفتنا الدقيقة لا تنصَب إلا على العَالم الذى نعيش فيه ويترك ما وراء هذا العَالم لأنواع أُخرى من المعرفة دينية كانت أم صوفية (……) فالنظرة العلمية عَالمانية بطبيعتها».

ومع تنامى التيار الأصولى الإسلامى وتصاعُد سطوته الثقافية والسياسية والإقتصادية على المُجتمع المصرى، كان لا بد للعَلمانيين أن يقدموا تعريفهم الخاص للعَلمانية وأن يحاولوا فك الإرتباط الشرطى بين العَلمانية والإلحاد فى أذهان الناس، فالمُشكلة كانت قد إنتقلت من برودة الأكاديمية إلى سُخونة الشارع، والأمر لم يعُد أمر نُطق بالفتح أو بالكسر، وإنما أصبح غزلَاً وتملُقاً للمشاعر الدينية بإسم مُحاربة العَلمانية. أصبح الأمر تخديراً مُزمناً لكَسْب الجماهير المُغيَبة. هنا أصبحت محاولة التعريف ضرورة مُلِحة وليست ترَفاً دراسياً.

والمأساة تكمُن فى أنَّ كل ما يكتبه التيار الأصولى الإسلامى يستقى تعريفاته من أصوليين آخرين، وتظل الدائرة مُغلقة لا تسمح بأى تواصُل حتى بقصد الفضول المعرفى.. فالأمانة العلمية تقتضيهم أن يستمدوا آراءهم عن العَلمانية من تنظيرات العَلمانيين أنفسهم لها. وعلى حد علمى أنَّه حتى الآن لم يربط عَلمانى واحد بين العَلمانية وبين الإلحاد، فالعَلمانية نظرة إلى المعرفة والسياسة، والإلحاد نظرة إلى الدين واللاهوت.

وبقراءة مُتأنية لكتابات رموز العَلمانية المصرية الحديثة نستطيع أن نُقرر هذه الحقيقة ونعرِّف العَلمانية بالإيجاب وليس بالسَلْب.. بحقيقتها وليست بأنها هى التى غير الإلحاد، حتى لا يصبح العلمانيون دائماً فى موقف رد الفعل ودفع الهجوم، وحتى لا يقعوا فى الشِراك اللزجة المنصوبة لهم من قِبَل المُعسكر الأصولى، الذى يجعلهم دائماً فى حالة إستنفار مستمر وقسَم دائم بأغلظ الأيمان: ها نحن مؤمنون مثلكم بل وأكثر. وينتهى المزاد بفوز التيار الأصولى بالضربة القاضية لأنه جرّ العَلمانيين من ساحة الواقع إلى حلبة (الميتافيزيقا ) التى يجيد اللعب والمراوغة عليها.

وبداية لنتفق على الأصل اللغوى لكلمة العَلمانية، فالعَلمانية هى المُقابل العربى لكلمة «Secularism» فى الإنجليزية أو «Seculaire» فى الفرنسية، وأصول الكلمة تعنى يستولد أو ينتج أو يبذر أو يستنبت من الاهتمامات الدنيوية الحياتية، ومن هنا فإنها استُخدمت كصفة أيضاً لأصحاب هذه الاهتمامات الدنيوية، وللكلمة أيضاً دلالة زمنية (saeculum) فى اللاتينية بمعنى القرن، حيث إنها تصف الأحداث التى قد تقع مرة واحدة فى كل قرن، فالدقة الكاملة لترجمتها، كما يشير د.” فؤاد زكريا”، هى الزمانية لأن العَلمانية ترتبط بالأمور الزمنية، أى بما يحدث فى هذا العالم وعلى هذه الأرض، فى مقابل الأمور الروحانية التى تتعلق أساساً بالعالم الآخر. وقد كان المترجمون الشوام قديماً يستعملون لفظ العَلمانية كترجمة للكلمة الفرنسية «LAIQUE» أو الإنجليزية «LAICISM»، وهى المأخوذة عن اللاتينية «LAICUS»، أى الجماهير العادية أو الناس أو الشعب الذى لا يحترف الكهانة، تمييزاً لهم عن رجال الدين. والمفهوم الثانى -وإن كان لا يُستخدم الآن- يؤكد المفهوم الأول ولا ينفيه، فاللفظ قد تطور ليعبر عن التحول من حكم الأكليروس (الكهنوتى) إلى السيطرة المدنية (حكم الرجال العاديين) المعنيين بالشئون الدنيوية (الزمانية). هذا عن المعنى اللغوى الذى -كما رأينا- لا يعنى الإلحاد من قريب أو بعيد، بدليل أن القِس الذى لا يخضع لنظام كنَسى مُحدد يُطلق عليه Secular priest أى قِس عَالمانى، وليس قِساً مُلحداً وإلا لكانت نكتة!

وسيرُد المُتربصون بالعَلمانية ويقولون: «هذا هو تعريف الغرب المختلف عنّا شكلاً ومضموناً، فماذا عن تعريفكم أنتم؟»، وإجابة السؤال هى أن تعريفات العَلمانيين للعَلمانية، شأن أى تعريف فى إطار العلوم الإنسانية، تختلف بإختلاف وجهة النظر والمدرسة الفلسفية التى ينتمى إليها صاحب التعريف، ولكن فى النهاية تصُب كل التعريفات فى مصَب واحد.

وأول هذه الأنواع من التعريفات هو التعريف الذى يستند إلى علاقة العَلمانية بالدين:

  • «العَلمانية ليست هى المُقابل للدين ولكنها المُقابل للكهانة».
  • «العَلمانية هى التى تجعل السُلطة السياسية من شأن هذا العالم والسُلطة الدينية شأناً من شئون الله».
  • «العَلمانية هى فى جوهرها ليست سوى التأويل الحقيقى والفَهم العلمى للدين».

ثانياً تعريف من حيث حقوق المُواطنة وأسسها الدستورية:

  • العَلمانية لا تجعل الدين أساساً للمواطنة وتفتح أبواب الوطن للجميع من مختلف الأديان.. هذه هى العَلمانية دون زيادة أو نُقصان فهى لم ترادف فى أى زمان أو مكان نفى الأديان.
  • أسُس الدولة العَلمانية تتمثل فيما يلى:

أ – أن حق المُواطنة هو الأساس فى الإنتماء، بمعنى أنَّنا جميعاً ننتمى إلى مصر بصفتنا مصريين، مسلمين كنا أم أقباطاً.

ب – أن الأساس فى الحكم هو الدستور الذى يساوى بين جميع المواطنين ويكفُل حُرية العقيدة دون محاذير أو قيود.

ج – أن المصلحة العامة والخاصة هى أساس التشريع.

د – أن نظام الحكم السياسي يستمد شرعيته من الدستور ويسعى لتحقيق العدل من خلال تطبيق القانون ويلتزم بميثاق حقوق الإنسان».

ثالثاً: التعريف الشامل من وجهة نظر معرفية وفلسفية:

«التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مُطلق» هذا هو تعريف العَلمانية للدكتور “مراد وهبة”، والذى جاء فى معرض حديثه عن (رسالة فى التسامح) للمؤلف الإنجليزى “جون لوك”، الذى خلص إلى أن المُعتقدات الدينية ليست قابلة للبَرهنة ولا لغير البرَهنة، فهى إمَّا أن يُعتقد بها أو لا، ولهذا ليس فى إمكان أحد أن يفرضها على أحد، ومن ثمَ يرفض «لوك» مبدأ الإضطهاد بإسم الدين، ويترتب على ذلك تمييزه بين أمور الحكومة المدنية وأمور الدين. ويقرر “مراد وهبة ” أن هذا التمييز هو نتيجة للعَلمانية وليس سبباً لها، فالعَلمانية نظرية فى المعرفة وليست نظرية فى السياسة. وهذا التعريف يتفق، إلى حد كبير، مع تعريف آخر هو أن «العَلمانية مُحاولة فى سبيل الإستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة وعن المُسلمات الغيبية».

المصدر:

موقع «الوطن»

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى